سورة الفرقان - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


{وَقَوْمَ نُوحٍ} منصوبٌ بمضمرٍ يدلُّ عليه قوله تعالى: فدمَّرناهم أي ودمَّرنا قومَ نوحٍ وقيل عطف على مفعول فدمَّرناهم وليس من ضرورة ترتُّبِ تدميرهم على ما قبله ترتُّبُ تدميرِ هؤلاء عليه لا سيَّما وقد بُيِّن سببُه بقوله تعالى: {لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل} أي نوحاً ومن قبله من الرُّسل أو نوحاً وحدَهُ لأنَّ تكذيَبُه تكذيبٌ للكُلِّ لاتِّفاقِهم على التَّوحيدِ والإسلامِ وقيل هو منصوبٌ بمضمر يفسِّره قوله تعالى: {أغرقناهم} وإنَّما يتسنَّى ذلك على تقديرِ كونِ كلمة لَّماً ظرفَ زمانٍ وأمَّا على تقدير كونِها حرفَ وجودٍ لوجودٍ فلا لأنَّه حينئذٍ جواب لما لا يفسَّر ما قبله مع أنَّه مخلٌّ بعطف المنصوبات الآتية على قوم نوح لما أنَّ إهلاكَهم ليس بالإغراق فالوجهُ ما تقدَّم وقوله تعالى: أغرقناهم استئنافٌ مبيِّن لكيفيَّةِ تدميرِهم.
{وجعلناهم} أي جعلنا إغراقَهم أو قصَّتهم {لِلنَّاسِ ءايَةً} أيْ آيةً عظيمةً يعتبرُ بها كلُّ مَن شاهدها أو سمعها وهي مفعول ثانٍ لجعلنا وللنَّاس ظرفٌ لغوٌ له أو متعلِّق بمحذوف وقع حالاً من آيةً إذ لو تأخَّر عنها لكان صفةً لها {وَأَعْتَدْنَا للظالمين} أي لهم، والإظهارُ في موقع الإضمارِ للإيذانِ بتجاوزهم الحدَّ في الكفر والتَّكذيبِ {عَذَاباً أَلِيماً} هو عذاب الآخرة إذْ لا فائدة في الإخبار باعتاد العذابِ الذي قد أُخبر بوقوعه من قبلُ أو لجميع الظَّالمينَ الباقينَ الذين لم يعتبرُوا بمَا جَرى عليهم من العذاب فيدخل في زُمرتهم قُريشٌ دخولاً أوليَّاً ويحتملُ العذابَ الدُّنيويَّ والأُخرويَّ {وَعَاداً} عطفٌ على قوم نوح وقيل: على المفعول الأول لجعلناهم وقيل: على محلِّ الظَّالمينَ إذ هو في معنى وعدنا الظالمين وكلاهما بعيدٌ {وَثَمُودُ} الكلامُ فيه وفيما بعدَه كما فيما قبلَه. وقرئ: {وثموداً} على تأويل الحيِّ أو على أنَّه اسمُ الأبِ الأقصى {وأصحاب الرس} هم قومٌ يعبدون الأصنامَ فبعثَ الله تعالى إليهم شُعيباً عليه السَّلامُ فكذَّبُوه فبينما هم حَولَ الرَّسِّ وهي البِئرُ التي لم تُطْوَ بعد إذِ انهارتُ فخُسف بهم وبديارِهم. وقيل: الرَّسُّ قرية بفَلْجِ اليمامةِ كان فيها بقايا ثمودَ فبَعث إليهم نبيٌّ فقتلوه فهلكوا. وقيل: هو الأُخدودُ. وقيل: بئرٌ بأنطاكيَّةَ قتلوا فيها حبيباً النَّجارَ. وقيل: هم أصحابُ حنظلةَ بنِ صفوانَ النبيِّ عليه السَّلامُ ابتلاهم الله تعالى بطيرٍ عظيمٍ كان فيها من كلِّ لون وسمَّوها عنقاءَ لطولِ عُنقِها وكانت تسكنُ جبلَهم الذي يقالُ له فتخ أو دمح فتنقضُّ على صبيانِهم فتخطفُهم إنْ أعوزها الصَّيدُ ولذلك سُمِّيتْ مُغْرِبا فدعا عليها حنظلةُ عليه السَّلامُ فأصابتْها الصَّاعقةُ ثم إنَّهم قتلُوه عليه السَّلامُ فأُهلكوا. وقيل: قومٌ كذَّبُوا رسولَهم فرسُّوه أي دسُّوه في بئرٍ.
{وَقُرُوناً} أي أهلَ قرونٍ. قيل: القرنُ أربعونَ سنةً وقيل: سبعونَ وقيل: مائةٌ وقيل: مائةٌ وعشرون {بَيْنَ ذلك} أي بين ذلك المذكورِ من الطَّوائفِ والأُمم وقد يذكرُ الذَّاكرُ أشياءَ مختلفةً ثمَّ يشيرُ إليها بذلك ويحسبُ الحاسبُ أعداداً مُتكاثرةً ثمَّ يقولُ فذلك كيتَ وكيتَ على ذلك المذكورِ وذلك المحسوبِ. {كَثِيراً} لا يعلم مقدارَها إلاَّ العليمُ الخبيرُ. ولعلَّ الاكتفاءَ في شؤون تلك القرُونِ بهذا البيان الإجماليِّ لما أنَّ كلَّ قرنٍ منها لم يكن في الشُّهرةِ وغرَابةِ القصَّةِ بمثابة الأُممِ المذكِورةِ.


{وَكُلاًّ} منصوبٌ بمضمرٍ يدلُّ عليه ما بعده فإنَّ ضربَ المثلِ في معنى التَّذكيرِ والتَّحذيرِ. والمحذوفُ الذي عُوِّضَ عنه التَّنوينُ عبارةٌ إمَّا عن الأُممِ التي لم يُذكر أسبابُ إهلاكِهم وإمَّا عن الكلِّ. فإنَّ ما حُكي عن قومِ نوحٍ وقومِ فرعونَ تكذيبُهم للآياتِ والرُّسلِ لا عدمُ التَّأثرِ من الأمثالِ المضروبة أي ذكرنا وأنذرنا كلَّ واحدٍ من المذكورين {ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال} أي بينَّا له القصصَ العجيبةَ الزَّاجرةَ عمَّا هم عليه من الكُفر والمعاصي بواسطةِ الرَّسلِ {وَكُلاًّ} أي كلَّ واحدٍ منهم لا بعضَهم دُون بعضٍ {تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} عجيباً هائلاً لما أنَّهم لم يتأثَّروا بذلك ولم يرفعُوا له رأساً وتمادَوا على ما هُم عليه من الكُفرِ والعُدوانِ. وأصلُ التَّتبيرُ التَّفتيتُ. قال الزَّجَّاجُ: كلُّ شيءٍ كسرتَه وفتّتَه فقد تبَّرتَه ومنه التِّبرُ لفُتاتِ الذَّهبِ والفِضَّةِ.
{وَلَقَدْ أَتَوْا} جملةٌ مستأنفة مسوقة لبيانِ مشاهدتهم لآثارِ هلاك بعض الأُمم المتبَّرةِ وعدم اتِّعاظِهم بها. وتصديرُها بالقسم لمزيدِ تقريرِ مضمونِها، أي وبالله لقد أتى قُريشٌ في متاجرهم إلى الشَّامِ {عَلَى القرية التى أُمْطِرَتْ} أي أُهلكت بالحجارة وهي قُرى قومِ لوطٍ وكانت خمسَ قُرى ما نجتْ منها إلاَّ واحدةٌ كان أهلُها لا يعملون العملَ الخبيثَ وأمَّا البواقي فأهلكها الله تعالى بالحجارةِ وهي المرادةُ بقوله تعالى: {مَطَرَ السوء} وانتصابُه إمَّا على أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ بحذف الزَّوائد كما قيل في أنبتَه الله تعالى نباتاً حسنَاً أي إمطارَ السَّوءِ، أو على أنَّه مفعولٌ ثانٍ إذِ المعنى أُعطيت أو وُلِّيتْ مطرَ السَّوءِ {أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا} توبيخ لهم على تركهم التَّذكر عند مُشاهدة ما يُوجبه. والهمزة لإنكار نفي استمرار رؤيتِهم لها وتقريرِ استمرارِها حسب استمرارِ ما يُوجبها من إتيانِهم عليها لا لإنكارِ استمرارِ نفي رؤيتِهم وتقريرِ رؤيتِهم لها في الجُملةِ والفاءُ لعطفِ مدخولِها على مقدَّرٍ يقتضيه المقامُ أي ألم يكونوا ينظرُون إليها فلم يكونُوا يَرونها أو أكانُوا ينظرون إليها فلم يكونُوا يَرونها في مرارِ مرورِهم ليتَّعظِوا بما كانُوا يُشاهدونَهُ من آثارِ العذابِ، فالمنكر في الأوَّلِ تركُ النَّظرِ وعدمُ الرُّؤيةِ معاً، وفي الثَّانِي عدمُ الرُّؤيةِ مع تحقُّقِ النَّظرِ الموجبِ لها. وقوله تعالى {بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً} إما إضرابٌ عمَّا قبلَه من عدمِ رؤيتِهم لآثار ما جَرى على أهلِ القُرى من العقوبةِ وبيانٌ لكون عدم اتِّعاظِهم بسبب إنكارِهم لكون ذلك عقوبةً لمعاصيهم لا لعدم رؤيتهم لآثارِها خلا أنَّه اكتفى عن التَّصريحِ بإنكارِهم ذلك بذكرِ ما يستلزمُه من إنكارهم للجزاءِ الأُخرويِّ الذي هو الغاية من خلق العالمِ، وقد كُني عن ذلك بعدم رجاءِ النُّشورِ أي عدم توقُّعهِ كأنَّه قيل: بل كانُوا ينكرون النُّشورَ المستتبع للجزاءِ الأُخرويِّ ولا يرَون لنفسٍ من النُّفوسِ نُشوراً أصلاً مع تحقُّقهِ حتماً وشمولِه للنَّاسِ عموماً واطِّرادِه وقوعاً فكيف يعترفُون بالجزاء الدٌّنيويِّ في حقِّ طائفةٍ خاصَّةً مع عدم الاطِّرادِ والملازمة بينه وبين المعاصي حتَّى يتذكَّروا ويتَّعظوا بما شاهدوه من آثارِ الهلاك وإنَّما يحملونه على الاتِّفاقِ. وإمَّا انتقالٌ من التَّوبيخِ بما ذُكر من ترك التَّذكرِ إلى التَّوبيخِ بما هو أعظمُ منه من عدمِ توقُّعِ النُّشورِ.


{وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً} أي ما يتَّخذونك إلا مهزُوءاً به على معنى قصرِ معاملتِهم معه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على اتِّخاذِهم إيَّاهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هُزؤاً لا على معنى قصرِ اتِّخاذِهم على كونِه هُزؤاً كما هو المتبادرُ من ظاهر العبارةِ كأنَّه قيل: ما يفعلون بك إلا اتِّخاذَك هزواً وقد مرَّ تحقيقُه في قولِه تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ} من سورة الأنعام وقوله تعالى: {أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً} محكيٌّ بعد قول مضمر هو حالٌ من فاعلِ يتَّخذونك أي يستهزئون بك قائلينَ أهذا الذي إلخ والإشارةُ للاستحقارِ وإبراز بعث الله رسولاً في معرض التَّسليمِ بجعله صلةً للموصول الذي هو صفتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مع كونِهم في غاية النَّكيرِ لبعثه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بطريقِ التَّهكُّمِ والاستهزاءِ وإلاَّ لقالُوا أبعثَ الله هذا رسولاً أو أهذا يزعمُ أنَّه بعثه الله رسولاً.
{إِن كَادَ} إنْ مخففةٌ مِن إنَّ. وضميرُ الشَّأنِ محذوفٌ أيْ إنَّه كادَ. {لَيُضِلُّنَا عَنْ ءالِهَتِنَا} أي ليصرفنا عن عبادتِها صرفاً كليَّاً بحيث يُبعدنا عنها لا عن عبادتِها فقط، والعدولُ إلى الإضلال لغاية ضلالِهم بادَّعاء أنَّ عبادتَها طريقٌ سويٌّ. {لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا} ثبتْنا عليها واستمسكنَا بعبادتِها. ولولا في أمثال هذا الكلامِ تجري مجَرى التَّقييدِ للحكم المطلقِ من حيثُ المعنى كما أشار إليه في قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} إلخ وهذا اعترافٌ منهم بأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قد بلغ من الاجتهادِ في الدَّعوةِ إلى الحقِّ وإظهارِ المعجزاتِ وإقامةِ الحججِ والبيِّناتِ إلى حيثُ شارفُوا أنْ يتركُوا دينَهم لولا فرطُ لجَاجِهم وغايةُ عنادِهم. يُروى أنَّه من قولِ أبي جهلٍ {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} جوابٌ من جهته تعالى لآخرِ كلامِهم وردٌّ لما ينبىءُ عنه من نسبته عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى الضَّلالِ في ضمن الإضلال أي سوف يعلمونَ البتةَ وإنْ تراخى {حِينَ يَرَوْنَ العذاب} الذي يستوجبُه كفرُهم وعنادُهم {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} وفيه ما لا يخفى من الوعيدِ والتَّنبيهِ على أنَّه تعالى لا يُهملهم وإنْ أمهلهم.
{أَرَءيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من شناعةِ حالِهم بعد حكاية قبائحِهم من الأقوالِ والأفعالِ وبيانِ ما لهم من المصيرِ والمآلِ وتنبيهٌ على أنَّ ذلك من الغرابةِ بحيث يجبُ أنْ يرى ويتعجَّبَ منه. وإلههَ مفعول ثانٍ لاتَّخذ قُدِّم على الأوَّلِ للاعتناء به لأنَّه الذي يدورُ عليه أمرُ التَّعجيبِ. ومَن توهَّم أنهما على التَّرتيبِ بناء على تساويهما في التَّعريفِ فقد زلَّ منه أنَّ المعفولَ الثَّانِي في هذا الباب هو المتلبِّسُ بالحالة الحادثِة أي أرأيتَ مَن جعلَ هواهُ إلهاً لنفسهِ من غير أنْ يلاحظه وبنى عليه أمرَ دينِه مُعرِضاً عن استماع الحجَّةِ الباهرة والبُرهان النيِّرِ بالكلِّيةِ على معنى انظُر إليه وتعجَّب منه. وقولُه تعالى: {أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} إنكارٌ واستبعادٌ لكونه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حفيظاً عليه يزجرُه عمَّا هو عليه من الضَّلالِ ويُرشده إلى الحقَ طوعاً أو كَرهاً. والفاءُ لترتيب الإنكارِ على ما قبله من الحالةِ المُوجبةِ له كأنَّه قيل أبعد ما شاهدت غلوَّه في طاعة الهوى وعتوَّه عن اتباع الهُدى تقسره على الإيمان شاء أو أَبَى.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10